كوهين الحقيقة المنقوصة

الساعة 254 أكتوبر 2018آخر تحديث :
كوهين الحقيقة المنقوصة

بقلم: فيصل الشيخ محمد

قرأت مقال السيد (محمد السيد) الذي جاء في موقع (المرصد السوري) تحت عنوان: (القصة الحقيقية للجاسوس كوهين لا كما رواها محمد حسنين هيكل)، وأنا بصفتي شاهد عيان وعايشت تلك القصة وتابعت فصولها عن قرب، أريد أن أضع ما لدي من حقائق حتى يطلع القارئ أو المهتم بالحقيقة الكاملة لقصة الجاسوس الإسرائيلي (كوهين).

بداية أرجو أن لا يعتبر صديقي محمد السيد أنني أريد في تعليقي هذا الانتقاص مما أورده في مقاله، فإنني أحترم كل ما جاء به وأراد من خلاله – بصفته بعثياً قديماً – أن يدافع عن رفاقه وفكر ومبادئ حزبه، فهذا حقه وأنا أُكبر فيه هذا الوفاء والثبات وإن اختلفت معه، فالاختلاف لا يفسد للود قضية، فمن حقه كما هو من حقي الاختلاف، ولكن ليس من حقه ولا من حقي أن يطفئ أحدنا سراج عقل الآخر.

بداية فإن هذا الجاسوس (كوهين – كامل أمين ثابت) قد تبوأ مراتب متقدمة في حزب البعث، وليس هذا نسج خيال إنما هي الحقيقة، وقد تمكن ببراعة وخبث أن يظفر بثقة الرفاق – وأنا شاهد عيان – فقد زار الجبهة السورية (الجولان المحتل) وبالتحديد (نقطة زعورا – في القطاع الشمالي – التي أمضيت فيها أكثر من سنة أثناء خدمتي الإلزامية (1963-1966) ضمن وفد عسكري وحزبي على أعلى المستويات برفقة الفريق علي علي عامر الذي كان يتفقد الجبهة السورية بصفته قائداً للجيوش العربية، وكنا قد استنفرنا قبل وصول الوفد بساعات، وكنا في جاهزية قتالية عالية، وكنت أقود في حينها مجموعة (م.ط) المضادات الأرضية في النقطة، وكنت أربض مع عناصري خلف مدافعنا تحسباً لكل طارئ، وكان يقف خلفي بمحاذاة رأسي مسؤولان حزبيان، عرفت ذلك من لون بذتيهما الخضراء التي كان يختص بارتدائها الرفاق البعثيون، استرقت النظر إليهما، فعرفت أحدهما وكان من قيادات الصف الأول في حزب البعث، والآخر لم أعرفه، وسمعت هذا الشخص الغريب يوجه كلامه إلى العدو الصهيوني وهو ينظر في (منظار عسكري) إلى المستوطنات الصهيونية التي كانت جنة خضراء والمياه فيها بحيرات بحيرات، والصهاينة يلعبون في برك الماء وبعض الأنشطة الرياضية الخفيفة، ويتحدث بلهجة سورية ركيكة متباعدة الجمل ومتقطعة الكلمات: ابنوا وعمروا وخضروا.. وفي النتيجة كل هذا لنا.

التقطت صوراً تذكارية لأعضاء الوفد، مع أن التصوير محظور في النقاط العسكرية، ونشرت بعض هذه الصور في جريدة الأهرام المصرية، وكان من بينها صورة الرجل الغريب الذي كان يقف خلفي بالقرب من الفريق علي علي عامر، فتعرّف عليه أحد خبراء الصور في المخابرات المصرية، وتأكد لهم أنه الجاسوس الإسرائيلي المصري الأصل (كوهين)، وأرسلت المخابرات المصرية ملفاً كاملاً عن الجاسوس (كوهين) إلى المخابرات السورية، التي لم تعر هذا الملف أي أهمية، معتبرة أن الأمر لا يعدو لعبة من المخابرات المصرية لتشويه سمعة سورية.

ومرت الأيام وكوهين يزداد تغولاً في أسرار الجيش والبلاد، من خلال ما كان يقيمه من علاقات مع عدد من المسؤولين وذويهم في حينها، وما كان يحيي لهم من حفلات بازخة، وما يغدق عليهم من هدايا وهبات.. وكانت تل أبيب تستقبل في كل يوم التقارير التفصيلية عن أسرار الجيش والدولة، عبر جهاز الإرسال المتطور والدقيق الذي كان لدى كوهين في بيته في حي أبي رمانة الراقي حيث القصر الجمهوري ومعظم السفارات الأجنبية.

قلت إن المخابرات السورية لم تعر التقرير الذي جاءها من مصر أي انتباه، ولم تكلف نفسها التحقق من محتواه، إلى أن اتصلت السفارة الهندية بهم عن طريق الخارجية السورية بعد شهور، مشتكية من أن هناك تشويش على محطة الإرسال عندها، وأنه يتعذر عليها الاتصال بحكومتها في نيو دلهي.

عندها حركت الجهات المسؤولة في فرع الإشارة سيارة تنصت وتتبع لمصادر التشويش في المنطقة، وحصرت بؤرة التشويش في فيلا المغترب السوري كامل أمين ثابت، وكان ممنوعاً الاقتراب من هذه الفيلا أو دخولها، إلا بأوامر عليا، وجاء الأمر بدخول الفيلا، فدخلها العقيد أحمد سويداني على رأس مجموعة اقتحام مدربة من فرع المخابرات، ففاجأت الجاسوس (كوهين) وأربكته ولم تترك له الفرصة باستعمال السم المحفوظ في خاتمه، وبدلاً من أن يتكتموا على هذا الأمر ويستفيدوا مما لدى كوهين من معلومات عسكرية صهيونية، أعلن سويداني عبر جهاز الإرسال إلى تل أبيب عن اعتقال كوهين، كما جاء في مقال السيد (محمد السيد).

ولم تمض أكثر من سنة بعد إعدام كوهين حتى غزت القوات الصهيونية الأراضي السورية من أمنع مواقعها (القطاع الشمالي)، للتتساقط المواقع السورية المنيعة والعصية كالفراشات الواهنة أمام اندفاع جنود وآليات العدو الصهيوني دون دفع أو مدافعة، اللهم إلا من بعض الحالات الفردية البطولية التي قام بها نفر من الضباط الأشاوس، وفي مقدمهم صديقي الذي عشت معه أكثر من سنة في موقع تل فخار النقيب (نورس طه) الذي أبى الفرار أو الانسحاب منه حتى لقي ربه شهيداً مع جنوده وضباط وضباط صف كتيبته الباسلة.

وشاء الله أن أُساق إلى سجن المزة العسكري بتهمة، أنا بريء منها كبراءة الذئب من دم يوسف، وهذه قصة لا مجال لسردها في هذا المقام، حيث وجدت أمامي الآلاف من السجناء في ذلك السجن، من مختلف الأطياف الفكرية والسياسية والعسكرية السورية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، بما فيهم بعض الرفاق البعثيين، ولكل واحد منهم قصة وتهمة، أشهد أمام الله أن معظمهم – إن لم يكن كلهم – براء من كل ما وجه لهم من اتهام، بدليل أن معظمهم وأنا منهم قد برئنا أمام المحاكم العسكرية وأفرج عنا تباعاً.

نعود إلى قصة كوهين.. ففي يوم إعدامه أُمرنا في حوالي الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل _ أي نحن نزلاء سجن المزة – بالتوجه إلى ساحة السجن الأرضية دون أي معرفة بالغرض من ذلك، ولما كان عددنا أكبر من طاقة الساحة وقفنا على شكل حلقات متلاصقة، وكان ممنوعاً علينا أن نرفع رؤوسنا أو نلتفت يمنة أو يسرة، ويا ويل من يفعل ذلك فهناك عيون الحراس ولسع خراطيم المياه الغليظة التي لا ترحم.

بعد دقائق من الانتظار أًتي برجلين يلبس كل واحد منهما صدرية بيضاء مكتوب عليها اسمه وتهمته والحكم عليه، وعرفت عندها من هو الرجل الغريب الذي لم أتعرف عليه عندما زار الجبهة، وكنت قريباً جداً منه، وقرأت ما كتب على صدريته البيضاء: (الخائن كامل أمين ثابت) الحكم: شنقاً حتى الموت، التهمة: الخيانة العظمى. أما الرجل الآخر فكان الرائد فرحان الأتاسي.. وبعد استعراض الشخصين أمام كل السجناء في عملية تخويف وترهيب، وقف مدير السجن يلقي علينا محاضرة في الأخلاق والوطنية والعروبة والعمالة والخيانة محشوة بالشعارات الممجوجة والمستهلكة، وختم محاضرته بقوله: ولكم هي نتيجة كل خاين الموت.. وهذا ما ينتظركم يا خون.

لقد ألقت المحاكمة السريعة والمستعجلة لكوهين ظلالاً من الشك حول تلك الكيفية ونوع التهمة التي وجهت إليه، فلم توجه إليه تهمة التجسس بل تهمة الخيانة، والتسرع في تنفيذ الحكم جعل الكثيرين يعتقدون أن هناك صفقة ما أو إغلاق باب قد يفتح ولا يعرف كيف يغلق.

الجواسيس من غير أبناء البلاد لا يُعدمون (فهم كنز) بل يستفاد منهم بكل الوسائل الممكنة، أو يطلق سراحهم في تبادل أسرى أو معتقلون داخل السجون الصهيونية من سوريين وفلسطينيين وعرب.. وقد فعل الأردن ذلك عند إلقاء القبض على الجاسوسين الصهيونيين اللذين حاولا اغتيال القائد الحمساوي خالد مشعل، فقد أفرج عن شيخ المجاهدين أحمد ياسين، ومداواة خالد مشعل من ضربة كهربائية كادت تقضي عليه، في مقابل الإفراج عن الجاسوسين، وكان ألأردن هو الرابح الأكبر من هذه العملية الذكية والشجاعة.

مجدداً أعتذر لصديقي محمد السيد، راجياً أن يتسع صدره لهذه الحقائق التي أوردتها، والتي قد تكون غابت عن ذهنه أو لم يطلع عليها، وهدفي إثراء الموضوع ودعمه بالحقائق التي قد تكون محزنة ومؤلمة، فالتاريخ أحق بالصدقية لإجلاء كل غموض أو التباس.

 

هذا المقال نشر لأول مرة في منتدى أدباء الشام في عام 2009.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة