مدن ضائعة منا.. «القدس.. مدينتنا المستحيلة»

الساعة 2528 أغسطس 2018آخر تحديث :
إحراق مسجد في القدس المحتلة
  • أليست القدس مدينة «مستحيلة» لأن الاحتلال يحاول طمس هويتها العربية أرضاً ورموزاً وبيوتاً ومعابد؟
  • ليس المقصود المكان وحده، المدينة نفسها، بل مدينة الحلم المتخيلة، التي دون بلوغها أهوال.
  • عندما نحدق في صور قديمة لدمشق وبغداد وبيروت والقاهرة، ألا ينتابنا الشعور أنها أيضا باتت مدناً «مستحيلة» فقدناها؟

بقلم: حسن مدن

قبل أيام نشر صديقنا برهان شاوي، الأديب والسينمائي العراقي المقيم في ألمانيا، مقطعاً معبراً من قصيدة للشاعر الإسباني فدريكو جارثيا لوركا، مترجماً إلى العربية، يقول فيه: « قرطبة وحيدة وبعيدة/ ومع أني أعرف الدروب إليها/ فلن أصل إلى قرطبة أبداً/ إيه..إيه يا مهرتي الصغيرة الشجاعة/ أنا أعرف أن الموت ينتظرني قبل أن أصل إلى قرطبة».

معلوم أن لوركا اغتيل، وهو لما يزل شاباً في الثلاثينات من عمره، في أحد التلال المحيطة بغرناطة على يد فرق الموت الفاشية، بأوامر من الديكتاتور فرانكو شخصياً فترة الحرب الأهلية الإسبانية.

ولم يكن هذا هو المقطع الوحيد الذي تنبأ فيه هذا الشاعر بموته، بل إنه في مقطع آخر تنبأ بأن جثته لن يعثر عليها بعد موته، وهذا ما حدث بالفعل، حتى أمر قاضي إسباني، في عام 2008 بفتح عددٍ من المقابر الجماعية لضحايا الفاشية في الحرب الأهلية، لأن هذا القاضي الشجاع وضع على عاتقه مهمة إنصاف ذكرى هؤلاء الضحايا.

استجاب القاضي لنداء ذوي من فُقدوا في فترة حكم فرانكو، والذين يُقدر عددهم ب 500000 شخص، وكان رفات الشاعر لوركا في واحدةٍ من هذه المقابر.

كان لوركا يهجس بالموت، لذا طلب أن تبقى نافذته مفتوحةً عندما يموت. لكنه لم يَمتْ، إنما قُتل غيلةً. لم تكن ثمة نافذة لتفتح لحظةَ قتله في الفضاء الشاسع تحت السماء الأندلسية، ولكن الشاعر الذي أراد لنفسه موتاً شاعرياً كان يقول نبوءته في أن شعره سيُحلق من خلف نوافذ غرناطة، ليطوف الدنيا.

بعد نشر برهان شاوي للمقطع الشعري المشار إليه دار بيني وبينه حوار، ضمنه قال برهان: «قرطبة.. مدينتنا المستحيلة».

ملكني هذا التعبير. لا أحسب أن برهان قصد بقوله ذلك حنيننا الغامض نحو مدن الأندلس، حيث قرطبة واحدة من أجملها، وإنما رمى إلى أبعد من ذلك. تماماً كان لوركا يرمي حين عبر عن يقينه بأنه لن يبلغ قرطبة رغم معرفته الدروب إليها، وأن الموت ينتظره في الطريق إليها.

لم يكن لوركا يقصد قرطبة، بالضرورة، المكان وحده، المدينة نفسها، وإنما كان يقصد قرطبة الحلم، قرطبة المتخيلة، ولكنها كانت حينها مستحيلة البلوغ بالنسبة إليه، فدون ذلك أهوال.

لكن أتكون قرطبة وحدها هي المدينة المستحيلة بالنسبة لنا؟

كم عدد المدن التي باتت مستحيلة علينا، أو هكذا تبدو في لحظتنا الراهنة، أليست القدس مدينة «مستحيلة» أخرى، لأن الاحتلال يزحف كل يوم على كل معنى للوطنية الفلسطينية فيها، أرضاً ورموزاً وبيوتاً وأماكن للعبادة؟

وقبل القدس، واجهت حيفا ويافا والناصرة، وثغور ومدن فلسطينية، ما تواجهه القدس اليوم.

على صلة بهذا، حين نحدق، اليوم، في الصور القديمة لدمشق وبغداد وبيروت والقاهرة، ألا ينتابنا الشعور، ونحن نقارنها بواقعها اليوم، أنها، هي الأخرى، باتت مدناً مستحيلة، مدناً فقدناها؟

* د. حسن مدن كاتب صحفي من البحرين.

المصدر: صحيفة «الخليج» الإماراتية

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة