الفلاح حلم العودة “قصة قصيرة”

الشاعر ع16 يناير 2019آخر تحديث :
الفلاح حلم العودة "قصة قصيرة"

الفلاح حلم العودة “قصة قصيرة”

يتطلع ذلك الفلاح الحزين، الذي ترك قريته منذ سنين، إلى الجانب الشرقي من الطريق، حيث ماء النيل الذي يمر من الوادي هزيلا، وإلى الأرض اليابسة التي تشققت تحت عجل القطار الذي تعطل أمام النهر، فتركه ركابه، وإلى أوجه هؤلاء الذين ينظرون إلى الأفق صامتين، ثم بدأ ينظر غربا ويتابع مشهد الأقنعة التي تهاجم السهول والجبال والوديان، وإلى ذلك القناع الذي انزوى جانبا ثم اقترب من سطح الماء ينظر لوجهه، فلما رأى بشاعة القناع الذي يرتديه، مد يده ونزعه بكل قوته، ثم ملأ كفيه بالماء وحاول أن يمحى آثاره من على وجهه، حاول وحاول وحاول…. فلم يستطع، أخذه فضوله وظل يتابعه على صفحة الماء، وهو يتسلل عائدا لبلده وأهله وناسه ومجتمعه الذي خرج منه ساخطا منقلبا، ولما نظر في عيونهم رأى بشاعة غربته، حاول أن يعود من نفسه لهم، لكن فوبيا رفض كل ما هو ينتمي لأهله وناسه ودينه وتاريخه وحضارته، التي شكلت وجدان هؤلاء الناس؛ كانت تؤرقه، وتنفلت منه بعض المفردات التي تنفرهم منه: إيه الجهل ده؟ إيه القرف ده؟ إنتوا مش فاهمين.. ولمّا لم يستطع الفكاك من سطوة هذا الغزو الذي غزى عقله، ووجد نفسه ذلك الشخص المريض المصاب بفوبيا رفض الثوابت، راح يُخرج بطاقته الشخصية من جيبه وينظر فيها، بدأ يتصفحها بصوت مرتفع: الديانة مسلم ،الجنسية مصري، العنوان حي شعبي، ظل يصرخ حتى أصيب بالهذيان وغاب في عمق المياه.

لما اقتربت الأقنعة أكثر فأكثر، بدأ يتابعها الواحد تلو الآخر: ها هو قناع جاء من صلاته توا وجلس بين أصدقائه، وبدا معترضا عند ذكر دين، إسلام، عقيدة، أمة، قومية، حركة، جماعة ذكرت في حواراتهم حول السياسة والثقافة والاقتصاد، قائلا: كفاية عنصرية، وهذا قناع آخر ليبرالي يرفض الآخر المختلف معه فكريا أو أيدلوجيا ويطالب بحبسه أو حرقه أو قتله، وذاك قناع يساري يتحدث عن حقوق الفقراء، وكل ممارساته تنحاز للأغنياء، وقناع إسلامي لا يعرف عن الدين إلاّ تلك الواجهة التي تمكنه من خداع الآخرين والتسلل إلى عقولهم، لتحقيق أهدافه ومصالحه، أما ذلك القناع المجهول الذي يقترب الآن، فقد رآه مرات عدة وهو جالس بين المثقفين، مستعرضا ما يمتلك من قدرات خارقة لا تمتلكها أعتى الأجهزة الأمنية، بحكايات وأحداث لا يصدقها عقل طفل، ومع ذلك فهم ينصتون إليه مجذوبين.

أما هؤلاء الذين يأتون معهم – مع المقنعين- بدون أقنعة، وترتسم على وجوههم علامات البؤس والضعف والوهن، فقد تابعهم وهم يخرجون في جماعات، الواحد تلو الآخر، من تحت مقصلة الآلة الإعلامية ثم يجلسون على طاولة في مقهى شعبي، يتنافسون فيما بينهم، في التأويل والتبرير والدفاع عن سُراقهم وقاهريهم وهاتكي أراضهم، من أهل النفوذ والسلطة، سكتت الأصوات وراحت الأقنعة تغيب في أعماق المياة.

غفا غفوة ثم صحا مرة أخرى يتصفح صفحة الماء الباهتة التي عكرتها الأيام، باحثا عن تلك الأقنعة التي اختفت، ثم نظر شرقا لهؤلاء الصامتين، متسائلا: متى يعود هؤلاء لجِدْ الكلام؟ ثم نظر غربا حيث كان يقف هؤلاء المقنعين من السادة وما حولهم من حاشية ومنتفعين، وتساءل: متى تنجلي الأمور وتعود صفحة ماء النيل ناصعة البياض؟ ترى سينظر هؤلاء لمرآة الماء ويحلمون حلم العودة؟ ثم نظر إلى المكان الذي كان يجلس فيه هؤلاء الهزالى المحرمومين من متاع الدنيا والدين، وتساءل: متى يعرف هؤلاء؟ أن من يرتضي العبودية لمن يمتهنه من البشر، هو من يئس من رحمة الله؟ وأخيرا عاد ونظر إلى نفسه في الماء، متسائلا: هل سيعود الفلاح الذي تمرد على حاله وبلده وآله وأولاده إلى أرضه من جديد؟
بعد أن ترك على الشط صدى تساؤلاته البائسة، تتنقّل في الأجواء الخاوية، دون أن يسمع رد الصدى، تذكر أرضه وبكاء زوجته وأولاده، فوضع حقيبته جانبا وراح يرتدي ملابسه القديمة، فَرَدَ جلبابه فوق الصديري القطن الذي لبسه، وحزم رأسه جيدا بشاله المزخرف، ووضع مركوبه في قدميه، وأمسك بعصاته الخيزران، ثم مضي في الطريق عائدا للقطار، بعد أن رمى حصاةً في مياه النيل الراكدة.

بقلم : أحمد توفيق

17634413 406153199750807 8476289119536681284 n

شاعر وكاتب مسرحى مصرى

باحث فى التراث الشعبى

اقرأ/ى أيضا :

المحتويات

نانسى عجرم تنتظر مولدتها الجديدة بفبراير القادم

معرضاً جماعياً للفنون التشكيلية بالعراق

سارقو الفرح يتسنمون قمم الجبال الشوامخ ويفتقرون إلى أدنى بواعث الإبداع

مسابقة سلطان بن زايد الشعرية تنتهى 22 يناير

ننشر قصائد ” أسامة عفيفى ” الأخيرة

التعليقات

عذراً التعليقات مغلقة

اكتب ملاحظة صغيرة عن التعليقات المنشورة على موقعك (يمكنك إخفاء هذه الملاحظة من إعدادات التعليقات)
    الاخبار العاجلة