الحل الدولي للمسألة السورية

الساعة 2531 يوليو 2012آخر تحديث :
slama kilasyr 436

slama kilasyr 436بقلم: سلامة كيلة
تبدو المسألة السورية كأنها دخلت في دهاليز الصراع الدولي، وأن حلها بات مرتبطاً بالتفاهم الأميركي الروسي. لقد سعت بعض أطراف المعارضة لنقل المسألة إلى مجلس الأمن، ففوجئت بتغيّر درامي في الوضع الدولي يُفشل كل إمكانية لاتخاذ قرار من المجلس تحت البند السابع، يفتح أفق التدخل العسكري الذي ظنت أن “الغرب” مستعد له، فتبيّن أن النظام في سوريا هو الذي يريد هذه النقلة من أجل إظهار أنه محمول على حليفه الدولي: روسيا، وأن التغيير الداخلي غير مسموح به حتى وإن قرر الشعب ذلك.

من جهة، أصبح الاهتمام بالموقف الدولي هو المسيطر، ومن جهة أخرى ظهر كم أن الوضع الدولي بات غير مفهوم وملتبس. فما يبدو واضحاً هو أن الجغرافيا السياسية العالمية لا تحمل حلاً لما يجري في سوريا، لا عبر التوافق بين الأطراف المختلفة (الغرب وروسيا)، ولا عبر التدخل العسكري من قبل البلدان الرأسمالية.

فروسيا تعتقد بأنها المعنية وحدها بما يجري وأن الحل يجب أن تقرره هي، والبلدان الإمبريالية القديمة لم تعد قادرة على التدخل العسكري نتيجة وضعها الاقتصادي المتهاوي.

الوضع الدولي لم يعد كما كان قبل بضع سنين، وتوازنات القوى فيه تغيّرت. وربما نكون في مرحلة تؤشّر على عودة الصراع من أجل تقاسم العالم بين رأسماليات قديمة (أميركا وأوروبا) ورأسماليات جديدة (روسيا والصين).

والمسألة السورية كانت هي المفصل الذي أظهر هذا الوضع وكل هذه التناقضات، وكشفت الانقسام الجديد للعالم والذي ربما يؤدي إلى عودة الثنائية القطبية، لكن هذه المرة بين محورين رأسماليين (إمبرياليين)، وليس بين محور إمبريالي وآخر اشتراكي كما كان الوضع خلال الحرب الباردة (1945–1991).

من جهة، سنلحظ أن روسيا كانت تستعيد “تماسكها” بعد الانهيار الذي حصل في عهد بوريس يلتسين ونهب المافيا لثروة الشعب الروسي، ووقوفها على حافة التفكك والتحوّل إلى بلد طرفي (عالمثالثي).

فقد شكّل عهد بوتين الأول مرحلة وقف التدهور ومحاولة تثبيت قوة روسيا عالمياً، ومن ثم استمرت هذه السياسة في مرحلة خليفته. ولقد استطاعت أن تتبلور كبلد رأسمالي (إمبريالي) يطمح في إيجاد أسواق ونفوذ. وكانت الصين تفرض ذاتها كقوة عالمية في المستوى الاقتصادي.

ومن جهة أخرى كانت الولايات المتحدة تعاني من أزمة اقتصادية عميقة حاولت حلها عبر “الطريق التقليدي” -أي الحرب- منذ عام 1991 دون أن تفضي إلى تجاوزها، على العكس من ذلك فقد أدت هذه الطريق إلى مفاقمتها. ولقد شكّل انفجارها عام 2008 لحظة تحوّل كبيرة ظهرت بشكل واضح منذ نهاية عام 2010 حيث ظهر أن الاقتصاد الأميركي لم يتعافَ، وأنه معرّض لأزمات أكبر، كما أن أوروبا بدأت تغرق في أزمة كبيرة كذلك، هي أزمة المديونية التي تهدد بانهيار اليورو وتفكك الاتحاد الأوروبي، وأيضاً ستنعكس على الاقتصاد الأميركي بشكل مباشر.

هذا الوضع جعل أميركا تتراجع عن “عنجهيتها” التي كانت تدفعها للتصرف كقائدة وحيدة للعالم، وجعل قبضتها تضعف ليبدأ تراجعها العالمي. لهذا رسمت إستراتيجيتها الجديدة على هذا الأساس الذي أظهر تراجع ميلها إلى السيطرة العالمية، وتمحور اهتمامها في منطقة الهادي (في مواجهة الصين)، واعترافها بأنها غير قادرة إلا على خوض حرب واحدة، بعدما كانت إستراتيجيتها تنطلق من مقدرتها على خوض حربين كبيرتين وعدة حروب صغيرة في الآن ذاته، حيث فرضت أزمتها المالية تقليص عدد قواتها وميزانية وزارة الدفاع.

وما دامت السياسة خاضعة للقوة، فقد بدأ الوضع العالمي يميل إلى التغيّر وفق موازين القوى (الاقتصادية/العسكرية) الجديدة، وحيث بدأ شكل التمحور الماضي في التلاشي مقابل بدء بزوغ شكل جديد يقوم على سعي العديد من البلدان إلى أن تصبح قوى عالمية (الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا)، وأن يبدأ في التبلور تحالف عالمي جديد يضم كلا من الصين وروسيا والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا، يعمل لأن يكون القوة المهيمنة عالمياً في منظور إمبريالي لفرض تقاسم جديد للعالم انطلاقاً من موازين القوى الجديدة.

روسيا هنا هي “رأس الحربة” التي تحاول عبر قوتها العسكرية أن تفرض تراجع السيطرة الإمبريالية القديمة، وأن تفتح على وضع عالمي جديد يتأسس على سيطرة جديدة. وأميركا تسارع في “الانسحاب” من مواقعها القديمة، وهي تتلمس أزمتها التي تهدد بانفجار جديد.

وإذا كانت المسألة الليبية قد فلتت من يد الروس نتيجة المساومات الدولية، فقد ظهر أن موسكو تعتبر أن المسألة السورية هي المفصل الذي يجب أن يؤسس لعالم جديد تستطيع فيه فرض مصالحها. فقدت بدت أميركا أضعف، وبدا الروس في لحظة شعور بالقوة وبإمكانية فرض هذا “العالم الجديد”.

ما تريده روسيا في سوريا هو أن تكون من “حصتها” في التقاسم العالمي، رغم أن العلاقات التجارية لم تكن قوية سابقاً، وكانت الشركات الروسية العاملة في سوريا قليلة، حتى شراء السلاح كان قد تراجع في السنوات الأخيرة نتيجة الوضع المالي للدولة السورية.

فقد كان “رجال الأعمال الجدد” (الذين هم من المحيط العائلي) يميلون إلى العلاقة مع “الغرب”، وحين سُدّ الباب اتجهوا إلى الشراكة مع الرأسمال الخليجي ثم التركي. لكن الروس تقدموا بعد الثورة، خصوصاً بعد شعور السلطة بالحاجة إلى دعم دولي (أو حتى حماية دولية)، فقد أعيد تشغيل القاعدة البحرية في طرطوس بشكل كبير، وحصلت الشركات الروسية على كثير من العقود التي كانت من حصة شركات تركية. ولهذا فقد أصبحت تدافع عن السلطة بكل قوة، وأصبحت حاميها في مجلس الأمن، وتقريباً الماسك في قرارها.

لكن تطور الثورة يدفع هؤلاء إلى إعادة التفكير في الخيارات، بالضبط من أجل ضمان استمرار “الهيمنة”. وإذا كان الروس يصرون على دعم سلطة بشار الأسد، وظلوا يرفضون أن يتحقق الإصلاح بدونه، فقد ظهر في الآونة الأخيرة ميل إلى قبول حل يتجاوز الأسد وحاشيته. وأجروا اتصالات مع أطراف في المعارضة كان عنوانها ترتيب مرحلة ما بعد الأسد، لكن تبدو حركتهم بطيئة ومرتبكة وغير واثقة، بينما تجري الأمور على الأرض بتسارع شديد. ولهذا ربما تتجاوزهم الأحداث فيخسرون موقعهم “المهيمن” الذي تحقق فقط خلال الثورة. فمن الواضح أن معلوماتهم عن الوضع ضحلة، وفهمهم لموازين القوى مختل.

وإذا كان “أصدقاء سوريا” يظهرون كمؤيدين للثورة وداعمين لانتصارها، فإن مصالحهم لا تشير إلى ذلك، فأميركا المنسحبة من سيطرتها العالمية اتخذت مواقف متناقضة وباهتة منذ بداية الثورة، وبدت أنها تنظر من بعيد إلى الوضع، وبحماسة فاترة أو حتى بدون حماسة، رغم أن سياستها التي تلت احتلال العراق كانت تقوم على إحداث تغيير في النظام السوري، وفرض سلطة “موالية” (رغم أن النخب المالية التي كانت تهيمن على السلطة السورية كانت تميل إلى تحقيق هذه الموالاة، لكن “الرؤية الإستراتيجية” كانت تفرض عليها تغيير الطابع الطائفي للسلطة لمصلحة “الأغلبية” كضمانة لتأسيس سلطة غير مستقرة ضعيفة وتابعة بشكل مستمر). وهذا التغيّر في السياسة الأميركية انبنى على الأزمة التي تفجرت عام 2008، والتي جعلت أميركا ضعيفة في مقدرتها على السيطرة العالمية كما أشرنا من قبل.

فرنسا اندفعت قليلاً، لكن عدم تجاوب أوروبا معها جعل القرار الأميركي هو المسيطر، وجعلها عاجزة عن تقديم أكثر من الكلام.

لكن ما هو المنظور الذي يحكم هؤلاء وهم عاجزون عن أن يلعبوا دور المبادر لتحقيق “التغيير”؟
ربما كانت أميركا أوضح حينما طالبت الروس برعاية مرحلة انتقالية كما جرى في اليمن، وهي في ذلك تؤكد تقديم سوريا لروسيا في سياق التقاسم العالمي. لكن الدب الروسي ظهر أبطأ من أن يلتقط اللحظة ويشرع في دعم تغيير داخلي يحافظ له على مصالحه، بل تهوّر في دعم السلطة والدفاع عنها دولياً، وكان بذلك يخسر من رصيد روسيا شعبياً ويكشف طابعها الإمبريالي، لكنه طابع يفتقد الذكاء الإمبريالي، حيث لم يلمس المسؤولون الروس ممكنات توسع الثورة وتطورها، وفي المقابل ضعف السلطة وتفككها، مما سيقود إلى انتصار الثورة.

في هذا الوضع أصبحت سياسة “الغرب الإمبريالي” تتمحور حول كيفية “دعم الثورة”، لكن لكي تتحوّل إلى “حرب أهلية” أو صراع طائفي. ولهذا أصبح مطلوباً زيادة “العمل المسلح” على حساب النشاط الشعبي، وتدعيم الفئات الأصولية على حساب الفئات المدنية في العمل المسلح ذاته. كل ذلك من أجل تحقق “الحرب الأهلية” أو “الطائفية” التي بدأ الإعلام “الغربي” يروج لها، وبدأت تتكرر من قبل مسؤولين دوليين.

السياسة الإمبريالية الغربية الآن باتت تتمثل في تحويل الثورة إلى حرب طائفية من أجل إضعاف سوريا كمجتمع. وكل النشاط “الداعم للثورة” الذي تمارسه مجموعة “أصدقاء سوريا” ينطلق من الإظهار الإعلامي للدعم من أجل كسب مصداقية تسمح بتعزيز الخيار الذي يركز الإعلام عليه، وتؤكد بعض الدول دعمه، أي خيار التسليح وتحويل الثورة إلى صراع مسلح.

هنا الغرب الإمبريالي “الداعم للثورة” يتآمر عليها لأنه لا يريد ثورة منتصرة، ويريد تفكيك سوريا وضعفها لكي يكسب هو في مرحلة تالية ربما أو يورث الروس وضعاً لا فائدة منه. هذا هو المنطق الإمبريالي الذي لم تستطع روسيا كإمبريالية جديدة التعامل معه من أجل ضمان مصالحها.

فهي ما زالت تتمسك بالسلطة ذاتها التي قررت خوض الحرب ضد الشعب إلى النهاية، دون قناعة بحوار أو تنازل عن أدنى حجر في هذه السلطة التي شيدها حافظ الأسد لكي تكون إرثاً عائلياً “إلى الأبد”. ولهذا يمرّ الوقت دون أن تعرف كيف تقوم بخطوة تضمن مصالحها.

لكن، ما هو مهم ليس كل ذلك، بل هو أن هذا الوضع الدولي لم يعد يسمح بتدخل إمبريالي غربي، وهو الخطر الذي كان ممكناً في سنوات سابقة، ويُبقي روسيا في حيرة من أمرها عاجزة عن فعل شيء، ومن ثم سيتحقق التغيير بقوة الشعب ومقدرته على منع تحويل الثورة إلى “حرب مسلحة أصولية”، ودفعها نحو إسقاط السلطة عبر تفكيكها، بمعنى أن الثورة ستنتصر بقواها الذاتية في وضع عالمي مرتبك ومشلول.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

الاخبار العاجلة